بحث حول السياسة النقدية




  




 السياسة النقدية
تعريفها: مجموعة الإجراءات والترتيبات التي تتخذها الدولة في إدارة النقد والائتمان وتنظيم السيولة العامة للاقتصاد.تعتبر السياسة النقدية أكثر أنواع السياسات التصاقا بالتمويل والاستثمار، فتوفير النقد اللازم لتمويل احتياجات القطاعات الاقتصادية المختلفة والتوسع في الأسواق والنشاط تعتبر من الشروط الأساسية للتنمية الاقتصادية الفعالة والغالب في الدول النامية أن فوائض المدخرات المحلية لا تكفي لتنفيذ هذه السياسة فتلجأ الدولة إلى الاقتراض الخارجي أو إلى إصدار النقود لتمويل احتياجات هذه القطاعات الواسعة من الاقتصاد.
ونظرا لأن إصدار النقود تعتبر أيسر الوسائل لتمويل نفقات الدولة فإن الدولة تلجأ إلى  السياسة النقدية على الرغم من خطورتها وآثارها السلبية ولقد اتبعت العديد من الدول هذه السياسة النقدية الضارة والتي كان بإمكانها الاستعاضة عنها بسياسة نافعة لها ولأفراد الأمة فبدلا من أن تصدر كمية من النقود لتغطية مشروعاتها يمكن أن تطرح جزءا من المشروع ليشارك فيه القطاع الخاص بدلا من تكديس الأموال لدى القطاع الخاص أو تهريبها لخارج الحدود، أو إقامته لمشاريع بهذه الأموال في الدول الغنية، بدلا من ذلك يجب أن تتبع حكومات الدول النامية سياسة المشاركة مع القطاع الخاص وبذلك يمكن تحقيق العديد من الفوائد منها([1]) :
1 ـ تشغيل الأموال العاطلة بدلا من تكديسها.
2 ـ إبقاء الأموال داخل حدودها بدلا من تهريبها خارج القطر.
3 ـ مشاركة أموال الوطن في إقامة المشروعات اللازمة للأمة بدلا من استثمارها في الدول الغنية لتزداد في غناها وطغيانها.
4 ـ تحقيق الرفاهية الاقتصادية بانخفاض الأسعار بدلا من ارتفاعها في حال استخدامها سياسة الإصدار النقدي التي تؤدي إلى التضخم.
والإجراءات السابقة تعد من الصور المباشرة للسياسة النقدية، إلا انه توجد صور غير مباشرة للسياسة النقدية تتمثل في الأدوات المستخدمة لإعاقة أو تنشيط الاقتصاد والمتعلقة بتنظيم الأسواق المالية([2]).
وإذا كانت السياسة النقدية تمارس آثارها التمويلية بطريق مباشر أو غير مباشر إلا أنها لا تلعب نفس الدور في النواحي التمويلية والاستثمارية في الدول المتخلفة نظراً لتخلف الجهاز المصرفي وتخلف الوعي المصرفي لدى الأفراد وعدم وجود سوق للنقد بمعنى الكلمة ولكن مع ذلك فإن تأثيرها يبدو ناتج من قيام الحكومات بتمويل الكثير من مشروعاتها عن طريق عجز الموازنة وزيادة الإصدار النقدي أي أن كمية النقود تلعب دوراً هاما في تلك الناحية ([3]).
ولعل علاقة السياسة النقدية بعجز الموازنة يتمثل في عدم قدرتها على تحفيز الاستثمارات وتوظيفها لمصلحة المجتمع أي عدم مقدرتها على توفير مصادر تمويل واستثمارات لعملية التنمية مما يؤدي إلى ظهور فجوة بين إيرادات الدولة ونفقاتها.
الإصدار النقدي (التمويل التضخمي)
يعتبر التمويل التضخمي من أهم السياسات والإجراءات التي تنتجها الدول في العصر الحالي لتغطية الفجوة بين الإيرادات والنفقات، ونظرا لهذه الأهمية سيتم عرض هذا الموضوع بشيء من التفصيل موضحين علاقته بالسياسة المالية والنقدية وآثاره على مستوى النشاط الاقتصادي المصاحبة لعملية التنمية موضحين الرأي الشرعي في مثل هذا الإجراء.
الأسباب الداعية لسياسة التمويل التضخمي:
جاءت فكرة اللجوء إلى التمويل التضخمي نتيجة لعجز مصادر التمويل العادية (المدخرات والفوائض) سواء الإجبارية أو الاختيارية لتغطية الفجوة بين الإنفاق الحكومي والمصادر التمويلية وقد اعتبر التمويل التضخمي نوع من أنوع الادخار الإجباري ([4]) ، وهو يعتبر وسيلة سهلة قياساً بالضرائب والرسوم.
بعبارة أخرى فإنه في حالات زيادة حجم الاستثمارات المطلوبة عن حجم المدخرات الإجبارية والاختيارية فإن الدولة تلجأ إلى تمويل موازنتها عن طريق التمويل التضخمي أي زيادة الإصدار النقدي.

علاقة التمويل التضخمي بالسياسة المالية:
يعتبر التمويل التضخمي أحد أهم أدوات السياسة المالية في هذا العصر حيث تعمد الدول إلى إحداث عجز في موازنتها بهدف إحداث آثار توسعية وبالذات في أوقات الركود والانكماش، وفي حال عدم توفر مصادر نمويلية على شكل ضرائب أو فوائض لدي الحكومة،و على الرغم من معرفة الحكومة مسبقا لما يترتب عن هذه السياسة من أثار سلبية على النشاط الاقتصادي وبالذات مستوى الأسعار والقوة الشرائية للنقود إلا أن الدولة تلجأ إليها أملاً في تحقيق معدلات من النمو والرفاهية والخروج من حالة الركود والانكماش.
هناك إجماع لدي الاقتصاديين في الوقت الراهن على التحذير من اللجوء إلى التمويل التضخمي لتمويل الاستثمارات على نطاق واسع،وألا تستخدم إلا في حالات الضرورة وبحدود ومعايير ونظم معينة وإلا أتت على كل شئ ([5]).
علاقته بالسياسة النقدية:
يمثل عرض النقود ترجمة للصلة بين الجهة النقدية وأجهزة التمويل في المجتمع لذا فإن إصدار النقود يجب ألا يكون إلا لأسباب اقتصادية فعلية، حتى لا يؤدي زيادة عرض النقود عن عرض السلع والخدمات الحقيقية في المجتمع إلى أضرار متمثلة بانخفاض القوة الشرائية للنقود مما يؤدي إلى تحقيق مكاسب للبعض على حساب البعض الآخر ([6]).
لذا فإن عرض النقود (المؤثر الأساسي في السياسة النقدية) يجب أن يتم التحكم به فقط من قبل البنك المركزي باعتباره المشرف على إدارة  النقد وتنظيم الأسواق المالية بالدولة حتى يضمن استقرار قيمة النقد واستقرار مستوى الأسعار أو يساهم في توزيع الموارد وتخصيصها بصورة جيدة ([7]).
وباعتبار أن السياسة النقدية تلعب دوراً هاما في عمليات التمويل داخل المجتمع حيث تستخدم في التحكم في التيار النقدي من حيث كميته وسرعة دورانه واتجاهه، فإن التمويل التضخمي يعتبر من أكثر الإجراءات المستخدمة في التأثير على السياسة النقدية.
والتمويل التضخمي لا يقتصر على إصدار وطبع النقود، بل أن فتح الحسابات الائتمانية والاعتمادات أمام المنتجين وأصحاب الأعمال بالشروط الملائمة هي من أنواع التمويل التضخمي، ففي غالب الأحيان تقوم المصارف بتزويد المجتمع  بما يحتاجه من النقود عن طريق فتح الحسابات أمام الحكومة والتي بدورها تقوم بسحب شيكات عليها ومن ثم تسليم هذه الشيكات إلى المنتجين وأصحاب المشاريع، ثم يلجأ المنتجون إلى المصارف عارضين عليها الشيكات الحكومية فتسجلها المصارف لحسابهم مما يؤدي إلى توفير النقود والودائع أمام المنتجين والمنظمين ([8]).
فهذه العمليات في جوهرها ترتكز على زيادة الائتمان من قبل المصارف لصالح الحكومة والتي تعيدها بدورها إلى المصارف وهكذا.


آثار التمويل التضخمي على النشاط الاقتصادي:
يعتبر بعض الاقتصاديين أن التمويل بالعجز في الموازنة له آثار إيجابية على النشاط الاقتصادي تتمثل في زيادة الطاقة الإنتاجية وحجم الإنتاج والعمالة والدخول، وفي انخفاض أو ثبات في الأسعار مع تحقيق نمو اقتصادي مقبول ويعتبر أن هذه السياسة مقبولة في الفكر المالي الإسلامي وأنه أول من وضع اللبنة الأولى لهذه النظرية  ([9]).
إلا أن البعض يعتبر أن استخدام هذه السياسة أمر غير مرغوب فيه في أوقات التوسع والتضخم لأنها تزيد من حدة التضخم وتضعف القوة الشرائية للنقود، ولايحبذ استخدامها إلا في أوقات الركود والانكماش فقط  ([10]).
وقد امتد الجدل بين الاقتصاديين في صلاحية هذه الأداة بين رافض لها للسلبيات التي تنجم عنها وبين مؤيد لها لما يحتمل أن تحققه من نتائج إيجابية ومنافع وسنحاول تلخيص الآثار الإيجابية والسلبية لهذه السياسة ([11]).
إيجابيات هذه السياسة:
بالإضافة إلى ما سبق من إيجابيات فإن هذه السياسة تحقق إيجابيات أخرى منها: ـ
(1) عدم الحاجة إلى جهاز إدراي ضخم كما هو الحال في الضرائب وبالتالي فهي وسيلة سهلة وغير مكلفة.
(2) تؤدي إلى زيادة الادخار الاختياري الناجم عن زيادة الدخول والأرباح.
(3) تراكم رأس المال وزيادته مما يزيد الطاقات الإنتاجية وهذا يساعد في تحقيق التنمية.
(4) تمويل القروض بالإصدار النقدي يؤدي إلى زيادة مستويات الطلب المصاحبة لزيادة الإنتاج عند مستوى التوظيف غير الكامل ([12]).
إلا أن هذه السياسة لها العديد من السلبيات منها:
 1 ـ إضعاف ثقة الجمهور بالعملة نتيجة لضعف القوة الشرائية لها.
2 ـ الزيادات المستمرة في الأسعار وبالذات في حال المنتجات التي لا تتمتع بمرونة عرض كافية كما هو الحال في المنتجات الزراعية.
3 ـ إرباك الحسابات الاقتصادية وعملية التنبؤ بمستقبل الفرص الاقتصادية.
4 ـ زيادة الميل الحدي للاستهلاك لدى أصحاب الدخول المتدنية نتيجة لتفضيلهم عدم الاحتفاظ بالسيولة لانخفاض القوة الشرائية للنقود.
5 ـ الآثار السلبية على ميزان المدفوعات حيث يؤدي ارتفاع الأسعار إلى إضعاف القدرة التنافسية للصادرات أمام السلع العالمية.
6 ـ آثارها التوزيعية تكون لصالح فئات المنظمين وأصحاب رؤوس الأموال على حساب أصحاب الدخول المتدنية  ([13]).
التمويل التضخمي في الفكر المالي الإسلامي
التمويل التضخمي سياسة لها صلة بالنواحي المالية والنقدية لذا سيتم تقويم هذا الإجراء من زاويتين: الأولى هي الزاوية النقديةوالثانية هي الزاوية المالية.
أولا: الزاوية النقدية: 
يعتبر التضخم معوقا لقيام النقود بوظائفها وبالأخص اعبتارها مقياس للقيمة ومخزناً للثروة، فالتضخم يؤدي إلى عدم ثبات واستقرار قيمة النقود، وبالتالي يؤدي إلى اختلال هذه الوظائف، وقد حرصت الشريعة الإسلامية على تحقيق الثبات والاستقرار في قيمة النقود لتؤدي وظائفها على خير وجه مما يعنى تحقيق العدل بالوفاء بالكيل والميزان والقسط الذي دعت الشريعة إليه في العديد من الآيات منها:
)وأوفوا الكيل والميزان بالقسط(  الأنعام: آية 152، )وأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشيائهم(   الأعراف: آية 85 )وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم(الإسراء: آيه 35.
فالعدل والوفاء ليس في السلع المكيلة والموزونة فقط، بل يمتد إلى كل مايتبادله الناس، ولقد كانت النقود الذهبية والفضية في حد ذاتها سعلة يتبادل بها الناس وزناً في العصر النبوي الذي نزلت فيه الآيات([14]) . وقد نهى رسول الله e عن كسر سكة المسلمين الجارية بينهم إلا من بأس، ذكر صالح بن حفص عن أبي بن كعب في قوله تعالى: ) أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ( المقصود بذلك كسر الدراهم وحسب مذهب الشافعي فإن كسرها لحاجة يكره ([15]).
وقديما ووفقاً لنظام المسكوكات الذهبية والفضية كانت عملية الغش تتم بإصدار الدولة لهذه المسكوكات غير الخالصة أي مخلوطة بمعادن أخرى أقل قيمة، وكان يحدث هذا عندما تكون الدولة بحاجة إلى مزيد من النقود دون أن يتوفر لها الذهب والفضة المطلوبان([16]) .
وهذه الصورة فيها تشابه إلى حد كبير بعملية الإصدار النقدي التي تتم الآن حيث تقوم الدولة بإصدار أوراق نقدية لتغطية الفجوة بين نفقاتها وإيراداتها.
وقد أشار الغزالي إلى أنه من الظلم والتعدي على حدود الله اختلاف قيمة النقود وذلك بتباينها في الجودة والرداءة ،وأن شكر الله تعالى على نعمته يقتضي أن نحرص على ثبات وساطة التبادل ومقياس قيمة الأشياء، ومخالفة ذلك تعدٍ لحدود الله تعالى ([17]) .
لذا فإن عرض النقود في المجتمع يجب أن لايتم إلا لأسباب اقتصادية ـ أي مقابل إنتاج سلع وخدمات، وأن لايتم إلا من قبل البنك المركزي للدولة، كما أن خلق الودائع من قبل البنوك التجارية يجب أن يكون محكوم بسياسة الدولة النقدية وفي الحدود التي تسمح بها ظروف الدولة الاقتصادية ([18]) .
وقد اعتبر البعض أن الدولة إذا قامت بإصدار كمية من النقود دون غطاء وبدون أن يقابل ذلك زيادة في الإنتاج أو زيادة في الطلب على كمية النقود لسد حاجة الناس في التداول بخساً وتطفيفاً وإن كان الفاعل ولي أمر المسلمين لما في ذلك من إضرار بالمسلمين وأكل أموالهم بينهم بالباطل ([19]) .
ثانيا: الزاوية المالية: ـ
لقد أشرنا إلى أن الدولة تلجأ إلى هذه السياسة من الزاوية المالية لتغطية الفجوة بين الإنفاق العام والإيرادات المتحصلة، ونظراً لاتصافها بالسهولة واليسر في إجراءات فرضها قياسا بالضرائب والرسوم وأملا في إحداث معدلات من النمو والتوسع وبالذات في حالات الانكماش وعليه فإن الدول تلجأ إلى عملية موزانة بواسطة هذه السياسة.
وفي إطار الاقتصاد الإسلامي خاصة عندما يطبق تطبيقا فعالا في مختلف جوانبه لا يوجد حاجة ملحة للالتجاء إلى هذه الأداة وذلك للأسباب الآتية ([20]) :
1 ـ أن الاستثمارات مخططة ومضبوطة في إطار من الأولويات كما أنها ليست من الضخامة بحيث تقوى على تمويلها المدخرات الحقيقية في المجتمع.
2 ـ أن الحاجات الحقيقة في المجتمع تخضع أيضا لقاعدة الترتيب والأولويات بحيث يبدأ بإشباع الضروري منها بمدى توفر الموارد فإذا تبقى شئ من الموارد تم توجيهه إلى حاجات تليها في الأهمية، فالاقتصاد الإسلامي لا يؤمن بعملية التنمية القصوى في أقل وقت ممكن مهما كانت الوسيلة ومهما كانت النتيجة المترتبة بل لابد من عملية الموائمة بين الحاجات والموارد.
3 ـ كذلك فإن قيام الاستهلاك والإنفاق في المجتمع الإسلامي على قاعدة الرشد والبعد عن التبذير والاسراف له دور في تخفيف جزء كبير من النفقات.
4 ـ الدور الذي يلعبه القطاع الخاص في توفير الحاجات الأساسية للمجتمع حيث أن العبء لا يقع على الدولة لوحدها بل يتكامل دور الدولة والقطاع الخاص في تحمل هذه المسئولية.
5 ـ أن هناك تعبئة شاملة لموارد وطاقات المجتمع خاصة في ظل تحريم الاكتناز وتكدس الثروة.
6 ـ فإذا توفرت مثل هذه الظروف أي تعبئة شاملة للموارد، و انضباط عملية الاستهلاك والإنفاق بحدود الرشد وعدم التبذير والاسراف فإنه من المتوقع قيام قدر كبير بين التوازن بيت الاستثمار والمدخرات.
7 ـ وأخيرا وبفرض أنه ـ مع وجود الأمور السابقة ـ ظلت هناك فجوة فإن الإسلام يعطي للدولة صلاحية في الحصول على ما تراه ضروريا من الأموال من أفراد المجتمع سواء على شكل قروض أو مشاركة في مشروعات الحكومة أو توظيف على أموالهم.
الفرق بين التمويل التضخمي والتوسع النقدي:
التوسع النقدي:ويقصد به المحافظة على مستوى عرض للنقد يتناسب مع نسبة النمو في الناتج القومي الإجمالي  ([21]).
 فانخفاض كمية النقود في المجتمع عن الحجم الذي ينسجم مع المعاملات الحقيقة من السلع والخدمات له آثار سلبية على النشاط الاقتصادي حيث يؤدي إلى انخفاض الأسعار وبالتالي انخفاض أرباح المنظمين مما يؤثر سلبيا على درجة استثماراتهم وبالتالي إنتاجهم وعليه فمهمة البنك المركزي في الاقتصاد الإسلامي أن يعمل على تحقيق استقرار قيمة النقد عن طريق عرضها جنبا إلى جنب وبتلك الدرجة نفسها التي تتوفر فيها السلع والخدمات في المجتمع، بل في بعض الحالات تقوم الدولة بزيادة عرض النقد بمعدل أكبر من نسبة النمو في الناتج القومي، ولكن على أن يتم هذا التوسع بصورة تدريجية وعلى مراحل متتالية تتسم بالبطء والهوادة، وهذا التصرف من شأنه تشجيع الاستثمار نتيجة لتحقيق نسبة أكبر من الربح نتيجة لارتفاع الأسعار بدرجة أكبر من الحالات المتحققة في ظل ثبات واستقرار الأسعار.
لكن يظل الأفضل بالنسبة للتوسع في عرض النقود ألا يتم إلا لأسباب اقتصادية بحتة أي مرتبط بنمو الناتج القومي، ومن الناحية الأخرى فعلى البنك المركزي التحكم في سياسة البنوك التجارية في خلق الودائع بما يتفق مع السياسة النقدية الهادفة إلى استقرار الأسعار  ([22]).
فالتوسع النقدي يكون مربوطاً بمؤشرات التوسع في الاقتصاد القومي فإذا وجد حاجة إلى مزيد من كمية النقود لتتجاوب مع التوسع في المبادلات والأنشطة الاقتصادية فإن للدولة الحق في إصدار كمية النقود اللازمة، وهذا لا يعتبر تمويلاً تضخمياً بل نمواً في عرض النقود يتناسب مع نمو الأنشطة الاقتصادية  ([23]).
فالسياسة الاقتصادية في الإسلام تسعى إلى تحقيق الاستقرار السعري مما له من آثار اجتماعية واقتصادية فهو يمثل مرشد ومنظم للطلب بحيث لا يحدث التضخم، وكذلك يعتبر الاستقرار السعري منظما للأسواق وللأسعار حتى لا يحدث التضخم من جهتها.
وأخيراً فإن الاستقرار السعري يعتبر منظماً ومرشداً للموازنة بين الاستثمارات والمدخرات ([24]).
ابسط تعريف للاستقرار الاقتصادي تجنيب المجتمع للآثار السيئة لحالتي الانكماش والتضخم، ومن المؤشرات على تحقيق الاستقرار الاقتصادي تحقيق أكبر نسبة من العمالة مع نسبة أقل من الارتفاع في الأسعار.
ويرى التقليديون أن الاستقرار الاقتصادي يحدث بتحقيق التوظيف الكامل أما كنيز فيرى أنه يحدث بتعادل الطلب والعرض مع الوصول إلى الأسعار التوازنية لكل السلع والخدمات في جميع الأسواق وفي نفس الوقت.
      أما في الإسلام فالاستقرار الاقتصادي يتحقق بتعادل الأسواق الثلاثة العمل، والسلع، والخدمات والمال. ([25])  


: اللجوء إلى التوظيف (فرض الضرائب)
تقسم الإيرادات العامة إلى موارد ثابتة تمثل أساس النظام المالي في الإسلام ،وموارد متحركة تمثل قوة احتياطية يملكها النظام ويستخدمها في الحالات التي لا تفي الإيرادات الثابتة بتغطية مصروفات الدولة ونفقاتها .
إذن السؤال هو ما الموقف إذا لم تكف حصيلة الزكاة وبقية الموارد الثابتة والدائمة لمواجهة مصالح المجتمع وتقاعس المسلم عن المرحلة الثانية وهي الإنفاق في سبيل الله طواعية أليس من حق الدولة أن ترفع درجة الإنفاق الاختياري إلى درجة الإلزام وهو ما أطلق عليه الفقهاء اسم التوظيف في أموال الأغنياء ، أو بلغة العصر فرض ضرائب جنباً إلى جنب مع الزكاة .
مع إيماننا أن الأصل في الإيرادات الثابتة والدائمة وفي الظروف العادية أنها قادرة على الوفاء بمصروفات الدولة ونفقاتها ، فلو أن الدولة الإسلامية قامت بجباية إيراداتها الدائمة مثل الزكاة والخراج والجزية وعائدات الملكية الجماعية بالطريقة الصحيحة ،وقامت بترشيد الإنفاق في مختلف المجالات بحيث تقتصر الاستثمارات على كل ما يجلب مصلحة حقيقية للمجتمع واستخدم في ذلك قاعدة ترتيب الأولويات ،وتم تشغيل كافة الطاقات والقدرات البشرية في المجالات المنتجة ، لو حققت الدولة ذلك فإنها لا تحتاج إلى مزيد من الضرائب ،ومع ذلك فإن الشريعة الغراء مكنت الدولة وأعطتها الحق في فرض ضرائب ( توظيف في أموال الأغنياء ) في الحالات التي لا تكفي فيها إيراداتها الثابتة والدائمة لتغطية النفقات ،وعملية فرض الضرائب ليست أمراً طليقاً تقوم به الدولة متى شاءت وكيف شاءت ، بل هو عملية مضبوطة وتخضع لشروط محددة وظروف معينة يقدرها أهل الاختصاص والشأن فلا بد للدولة أن تستنفذ كل وسائلها المتاحة وأن تعبئ كل الطاقات قبل أن تلجأ إلى الضرائب ، كما أن الحاجة التي من أجلها تفرض الضرائب لابد أن تكون حاجة عامة وعدم إشباعها وتحقيقها يوقع الضرر بالمجتمع المسلم وغير ذلك من الأمور التي سنتعرض لها من خلال النقاط الآتية :-

مشروعية فرض الضرائب ( التوظيف ) :-

للتدليل على مشروعية فرض الضرائب في الإسلام سنقوم بعرض الأدلة من الآيات والنصوص وآراء العلماء في هذا الموضوع وهي على النحو التالي :-

في المال حق سوى الزكاة :-

يقول الله تعالى ) ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة .... ( البقرة : 177 .
وفي الحديث عن فاطمة بنت قيس قالت سألت النبي أو سئل النبي eعن الزكاة فقال :" إن في المال حقاً سوى الزكاة " ثم تلى قوله تعالى ) ليس البر أن تولوا وجوهكم ... ( ([26]) .
قال الشعبي بعد أن قيل له هل في المال حق سوى الزكاة؟ فقال : نعم : أما سمعت قوله تعالى :  )وآتى المال على حبه ذوي القربى ….( وقوله )ومما رزقناهم ينفقون …( )وأنفقوا مما رزقناكم …(     ([27]) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي e"قال : من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ،ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له ، قال : فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل "  ([28]) .
وعن أنس قال أتى رجل من تميم رسول الله eفقال " يا رسول الله إني ذو مال كثير وذو أهل ومال وحاضرة ، فأخبرني كيف أصنع وكيف أنفق ؟ فقال e : "تخرج الزكاة من مالك فإنها طهرة تطهرك وتصل أقاربك ،وتعرف حق المسكين وابن السبيل والسائل ."  ([29]) والحديث يضيف إلى الزكاة حقوقاً مالية أخرى مثل الأقارب والجيران وإعطاء السائلين والمساكين .
ولقد تناول العلماء مسألة هل في المال حق سوى الزكاة بالتفصيل في بحث موضوع المال المكتنز وقد تراوحت آراؤهم بين مذهبين : الأول يرى أن المال المكتنز هو المال الذي لم تؤد زكاته ([30]).
المذهب الثاني يرى أن المال المكتنز هو المال الذي لم تؤد منه الحقوق الواجبة ([31]).
وتوفيقاً بين الرأيين سنعتبر أن الحقوق المفروضة على المال  في الظروف العادية هي الزكاة - ويقصد بالظروف العادية الظروف التي تكفي فيها الزكاة ولا يوجد مقتضى لتقرير حق فوقها - فإن كانت الظروف غير عادية فالأمر يقتضي تقرير حقوق فوق الزكاة ،والتي منها فرض الضرائب على الأغنياء ، لأن فرض الضرائب يكون في الظروف التي لا تكفى فيها حصيلة الزكاة والموارد الثابتة والدائمة .
أقوال العلماء في التوظيف :
الإمام الجويني ( إمام الحرمين )
يعتبر من أسبق العلماء الذين تناولوا هذا الموضوع إذ يعتبر أسبق من ابن حزم وهو أستاذ الغزالي ومن عباراته :-
" وأما سد الحاجة والخصاصات فمن أهم المهمات ...فإن أتفق مع بذل المجهود في ذلك وجود فقراء محتاجين لم تف الزكوات بحاجاتهم فحق على الإمام أن يجعل الاعتناء بهم من أهم الأمور في باله ..... فإذا كان تجهيز الموتى من فروض الكفايات ، فحفظ مهج الأحياء وتدارك حشاشة الفقراء أتم وأهم ."(1)

والواضح من عبارات الجويني :-

1- أنه في حالة قصور إيرادات الدولة الإسلامية عن تغطية نفقات الضمان الاجتماعي فمن حق الدولة فرض ضرائب على أموال الأغنياء .
2- يعتبر أن القيام بحقوق الفقراء والمساكين من فروض الكفاية ، فإذا لم يقم الأغنياء بواجبهم في ذلك فإن الدولة تلزمهم بذلك عن طريق الضرائب .
ابن حزم :
يقول ابن حزم " وفرض على الأغنياء في كل بلد أن يقوموا بفقرائهم ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات ولا فيء سائر المسلمين بهم ، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه ،ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك ،وبمسكن يكنهم من المطر والشمس وعيون المارة ."(2)
الغزالي :
يقول الغزالي :" إذا خلت الأيدي من الأموال ولم يكن في مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر وخيف من ذلك دخول العدو ، أو ثوران الفتنة من قبل أهل الشر ، جاز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند ."(3)
الشاطبي :
يقول الشاطبي :" فإنا إذا قررنا إماماً مطاعاً مفتقراً إلى تكثير الجنود لسد حاجة الثغور وحماية الملك المتسع الأقطار وخلا بيت المال ،و ارتفعت حاجات الجند إلى مال يكفيهم ، فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافياً لهم في المال إلى أن يظهر مال بيت المال ، ثم إليه النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار وغير ذلك ." ([32])
القرطبي :
يقول القرطبي " اتفق العلماء أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة يجب صرف الأموال إليها ، قال مالك رحمه الله : يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم وهذا إجماع ([33]) .
القواعد الفقهية التي يستند إليها العلماء :
يستند الفقهاء في رأيهم على جواز فرض الضرائب على قواعد فقهية أهمها :-
1- دفع أعظم المفسدين ( ارتكاب أخف الضررين ) .
2- تحصيل أعظم المصلحين ( تفويت أدنى المصلحتين تحصيلاً لأعلاهما ).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية " على أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها ،و تعطيل المفاسد وتقليلها : فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما،ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما هو المشروع"  ([34]) .
3- تحمل الضرر الخاص في سبيل دفع الضرر العام .
4- درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ([35]).
فقد يحدث في بعض الظروف عدم كفاية موارد الدولة العادية للقيام بوظائف ومسئوليات أساسية للدولة تضطرها إلى اللجوء إلى فرض الضرائب مستندة إلى تلك القواعد ، حيث تعتبر هذه الحالات من الحالات الغير عادية .
وهذه القواعد وغيرها من القواعد الفقهية لو حكمت في موضوع فرض الضرائب اقتضى الأمر جواز لجوء الدولة إلى ذلك بل من يمعن النظر في أقوال علمائنا وفقهائنا يرى أن رأيهم ليس بالجواز فقط بل بوجوب فرض الضرائب في بعض الأحوال .
يقول الشاطبي " فالمصالح والمفاسد المترتبة في الدنيا تكون بحسب ما غلب ، فإذا كان الغالب جهة المصلحة ، فهي المصلحة ،وإذا كان الغالب جهة المفسدة ؛ فهي المفسدة ولذلك كان الفعل ذو الوجهين يكون منسوباً إلى الجهة الراجحة ، فإن رجحت المصلحة فمطلوب ويقال عنه : مصلحة ،والعكس إذا رجحت المفسدة ." ([36]).
واليوم يمكن الاستناد إلى نفس هذه القواعد للاستدلال على فرض الضرائب في بعض المجالات وخاصة مقابلة التزايد في النفقات وعجز الإيرادات العامة الثابتة عن تغطيتها نتيجة للتزايد الملحوظ في دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي ،ولأن عدم فرض الضرائب معناه تعرض المجتمع إلى التدهور والاضمحلال ثم الزوال نتيجة لعدم توفر التمويل لدي الدولة لتغطية الكثير من مجالات الإنفاق التي تعتبر ضرورية لحياة المجتمع .
فإذا لم تفرض مصادر تمويله لتغطية الإنفاق على هذه المجالات ترتب على ذلك مفسدة كبيرة جداً تفوق ما يمكن أن يترتب من مفاسد على الأفراد نتيجة لاقتطاع جزء من دخولهم أو ثرواتهم على شكل ضرائب ([37]).
فالغزالي والشاطبي بينا فتواهما على قاعدة تحمل أخف الضررين وتحقيق أعلى المصلحتين وتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام ، فما يؤديه الواحد قليل بالنسبة إلى ما يخاطر به من ماله ونفسه إذا خلت شوكة الإسلام من فوى العسكر لحفظ نظام الأمور نتيجة لعدم قدرة الدولة على دفع مرتبات الجنود والعسكر وبالتالي صارت ديار الإسلام عرضه لاستيلاء الكفار وهذا يترتب عليه ضرر كبير على الدولة ككل وعلى الأفراد أيضا وفي هذه الحالة فالأفضل على الأفراد تحمل الضرر الذي يقع عليهم من اقتطاع جزء من أموالهم للإنفاق على هذا المجال ، بل إن ذلك يعتبر من مصلحتهم حيث وجه المصلحة واضح جلي في الأمر لأن الجيش لو ضعف عن الدفاع عن المجتمع ينزل الضرر العظيم بأموال الأفراد، فتعتبر الضريبة في هذه الحالة شيئاً يسيراً إذا قورنت بهذا الضرر اللاحق في حالة تمكن العدو من ديار المسلمين وسلبهم أموالهم ،وعليه فتغليب مقصود الشرع الذي جاءت به القواعد الأصولية يحتم ذلك حتى دون إلى الشواهد ([38]).
ويستشهدون على ذلك أيضاً بأن من حق ولي الطفل عمارة قنوات الأرض الخاصة بالطفل وإخراج أجرة الطبيب وثمن الأدوية وغيره من الأمور التي تحتاج إلى نفقات من باب تحمل أخف الضررين حفاظاً على مصلحة الطفل لتوقع ما هو أكثر منه إذا لم يتم الإنفاق على هذه الأمور ([39]).
وفي ذلك يقول الجويني أيضاً " ولو عدم الناس سلطاناً يكف زرعهم وضرعهم عادية وتوثب الهاجمين لاحتاجوا إلى إقامة حراس من ذوي البأس إلى أضعاف ما رمزنا إليه"  ([40]).
وكذلك " وفي أخذ فضلات من أموال رجال تخفيف أعباء عنهم وأثقال ،وإقامة دولة الإسلام على أهبة الاستعداد في أحسن حال ،ولو لم يتدارك الإمام ما استرم من سور الممالك لأشقى الخلائق على ورطات المهالك ،وتلك خصلة لو تمت لأكلت ولألمت ،ولكان أهون ما أتت فيها أموال الأغنياء ،وقد تتعداها إلى إراقة الدماء وهتك المستور وعظائم الأمور ([41]).
والواضح من جميع الأقوال التي أوردناها أنها مبنية على القواعد الفقهية وبالأخص تحمل أخف الضررين وتحصيل أعلى المصلحتين ، كما أن ما تقدمه الدولة للأفراد من خدمات ومرافق واستقرار سياسي وأمني يساعد على تثمير الأموال كل هذا إذا احتسبناه نجد أن الأفراد أيضاً هم المستفيدون من ذلك .
مجالات الإنفاق التي تفرض الضرائب لأجلها:
من خلال استعراضا لأقوال العلماء نستطيع أن نحدد المجالات التي تحتاج تغطيتها فرض الضرائب في حالة عدم كفاية الموارد الثابتة ولعل أهمها :
1- رعاية الفقراء وأعباء الضمان الاجتماعي .
وهذا الجانب واضح في عبارات ابن حزم والجويني ، فابن حزم يقرر أن من واجب الأغنياء القيام بفقرائهم ويجبرهم السلطان على ذلك ،وكذلك يعتبر أن سد الحاجات والخصاصات من أهم المهمات .
فالإنفاق على رعاية الفقراء والمساكين مستحق على الدولة في حالة وجود المال أو عدمه ،وحق الفقراء في أموال الأغنياء ليس محدداً.على تحمل هذه الأعباء وذلك بفرض الضرائب عليهم ([42]).
ويؤيد هذا الموقف سياسة عمر بن الخطاب التي عبر عنها بأكثر من عبارة حيث يقول: "إني حريص ألا أدع  حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجزنا تأسينا في عيشنا حتى نستوي في الكفاف"([43]) ، وكذلك "والله لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء، وأعطيتها فقراء المهاجرين"([44])
ويفهم من سياسة عمر أنها تعتمد على سد حاجات المواطنين كلها ما دام في المال كفاية ومتسع فإذا لم تكف موارد الدولة الدائمة والثابتة عن القيام بحاجات الفقراء فلا مانع لديه من أخذ جزء من أموال الأغنياء ويردها على الفقراء، بل إن الأمر عنده يستوجب أكثر من ذلك ألا وهو تساوي الجميع في الكفاف.
فما زاد من مال الإنسان عن كفايته وعياله معرض- حين ضرورة المجتمع إليه- للأخذ منه بل لأخذه جميعاً إذا اقتضت الضرورة، ولا يقتصر في ذلك على أداء الزكاة في مثل هذه الحالات بل يتعداه إلى بقية المال بالنسبة للأغنياء الذين في أموالهم فضل وسعة ([45]).
وذلك على اعتبار أن تحقيق المصلحة العامة- وهي هنا تأمين الكافة- حق الله الذي يعلو كل الحقوق ويضحى من أجله بالمصالح الفردية أخذاً بقاعدة يتحمل الضرر الخاص لرفع الضرر العام وأن ضمان حاجات الفقراء وكفالة مستوى المعيشة اللائق لهم من أهم أهداف السياسة الاقتصادية للدولة ([46]).
2- نفقات الدفاع والحماية والأمن:
وهذا الجانب أيضاً من الجوانب التي أشار إليها العلماء حيث ذكرها الغزالي في قوله "إذا لم يكن في مال المصالح ما يعين بخراجات العسكر وخيف دخول العدو بلاد الإسلام أو ثوران الفتنة قبل أهل الشر جاز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند.
ويقول الشاطبي "وخلا بيت المال وارتفعت حاجات الجند إلى مالا يكفيهم فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافياً في المال".
وهو كما قلنا مبنى على دفع المفاسد وجلب المصالح لأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح وباعتبار أن الجهاد بالمال والنفس واجب متعين على المسلمين بقوله تعالى :
)انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله.....(التوبة:آية41
ففي حالة عدم وجود المال الكافي في بيت المال للإنفاق على الجهاد وما يلزم له تبادر الدولة إلى حض المسلمين على التبرع للجهاد كما كان رسول الله e يفعل ففي غزوة تبوك ندب رسول الله e" الناس إلى الخروج وأعلمهم المكان الذي يريد ليتأهبوا لذلك وبعث إلى مكة وإلى قبائل العرب يستنفرهم، وأمر الناس بالصدقة وحثهم على التقوى، فجاءوا بصدقات كثيرة، ومن هؤلاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه جاء بماله كله وكان 400000درهم، وجاء عمر بن الخطاب بنصف ماله، وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية وجاء عثمان رضي الله عنه ب 95بعيراً وخمسين فرساً وبذلك جهز ثلث الجيش، وقيل جاء عثمان بألف دينار في كمه فنثرها في حجر الرسول e: فدعا رسول اللهe لجميع من جهز جيش العسرة، من جهز جيش العسرة فله الجنة ([47]) .
فإن لم تكف تبرعات المسلمين للإنفاق على الجهاد، وكان متعيناً قامت الدولة بفرض الضرائب على المسلمين بالقدر اللازم للإنفاق عليه، وعلى ما يلزم له دون زيادة، ولا يحل لها أن تفرض أكثر من الحاجة اللازمة لذلك ([48]).
ويدخل في نفقات الدفاع والحماية النفقات المتعلقة بالصناعات الحربية من أسلحة وعتاد وذخائر لأن الصناعة الحربية متعلقة بالدفاع والجهاد، فالجيش لا يستطيع أن يدافع ويجاهد إلا بوجود الأسلحة الكافية، فالجهاد يحتاج إلى سلاح، والسلاح يحتاج إلى صناعة. وصناعة الأسلحة بالقدر اللازم من مظاهر القوة التي أمرت الأمة بإعدادها في قوله تعالى: )واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ..... (الأنفال:آية 60
وعلى الدولة أن تقيم هذه الصناعات من موارد بيت المال فإن لم تكف موارد  بيت المال انتقل وجوب الصرف عليها إلى الأمة، وفرضت الدولة لأجله الضرائب اللازمة.
وكذلك فإن رواتب الجند والعساكر تعتبر من نفقات الدفاع التي يوجب على الدولة أن تفرض الضرائب للإنفاق عليها إذا لم تكف مواردها الثابتة لأن الجند هم الذين يتولون الدفاع عن الأمة وينوبون عنها، فلا بد من كفايتهم حتى يقوموا بواجبهم.
فالإسلام فرض على المسلمين واجبات مالية تمثل مساهمة في تحمل أعباء الدولة، وهذه الواجبات هي نظير تمتعهم  بحقوق الأمن على أنفسهم وأموالهم من عبث العابثين واعتداء المعتدين، وكذلك حقهم في استغلال مرافق الدولة حيث يستطيعون من خلال هذه الحقوق تنمية أموالهم واستثمارها ([49]).
فالواجب يقتضي عليهم المساهمة في تزويد الدولة بالموارد الإضافية في حالة عدم كفاية مواردها لتغطية هذه المجالات.
3- نفقات المصالح العامة:
يقول الماوردي: ([50]) أن المستحق على بيت المال نوعان:
الأول: أن يكون مستحق صرفه على وجه البدل كأرزاق الجند وأثمان السلاح فيكون استحقاقه معتبر بالوجود والعدم لأنه من الحقوق اللازمة على الدولة.
الثاني أن يكون مستحقا على وجه المصلحة والإرفاق دون البدل فيكون استحقاقه معتبراً بالوجود، فإن كان المال موجوداً وسقط فرضه عن المسلمين...... فإذا كان هذا الأمر من فروض الكفاية التي يعم ضررها كافة المسلمين كوعورة طريق أو انقطاع شرب جاز لولي الأمر إذا خاف الفساد أن يفترض على بيت المال ما يصرفه في الديون دون الارتفاق" ([51]) .
وفي موضع آخر يرى الماوردي أن الإنفاق على هذه المصالح واجب على ذوي المكنة في المجتمع في حال عدم كفاية موارد الدولة ([52]) .
وقد عبر الماوردي عن المصالح العامة بظروف عصره، والمصالح العامة (المرافق )في عصرنا تشمل كل النفقات العامة للدولة والصرف على المرافق الأساسية للدولة، من تحصينات الدولة وإصلاح الطرق وبنائها وشق الترع وعمارة المساجد والمرافق الصحية و التعليمية ومرافق الخدمات  الأساسية مثل الكهرباء والمياه والهاتف والبريد وغيرها ([53]).
وهذه المرافق يعتبر وجودها ضرورة من الضرورات في هذا العصر وينال الأمة ضرر كبير إذا لم تقم الدولة بتوفيرها، ولذا فاستحقاق الصرف عليها من الحقوق اللازمة على بيت المال سواء وجد المال، أم لم يوجد، وفي حالة عدم وجود المال الكافي للصرف عليها انتقل وجوب الصرف على الأمة، فإن لم يقم المسلمون بواجبهم طواعية فعلى الدولة إجبارهم على ذلك عن طريق فرض الضرائب اللازمة لتمويل هذه المصالح ([54]) ، لأن عدم إنفاقها يؤدي إلى ضرر بالأمة والضرر يجب إزالته لقوله e : "لا ضرر ولا ضرار".
ولا يدخل في المصالح العامة المشاريع الإنتاجية التي تقيمها الدولة للحصول على عائد لأنه لا يترتب على عدم إقامتها أي ضرر بالأمة، وهذه المشاريع تقوم الدولة بإنشائها عندما يتوفر المال اللازم في بيت المال ويفيض عن النفقات الأساسية للمرافق الأساسية في الدولة ([55]).
4- نفقات التنمية الاقتصادية:
لا تقل الأهداف الاقتصادية للإنفاق العام عن الأهداف الاجتماعية والمصالح العامة وأغراض الدفاع والحماية والأمن، حيث يعتبر تحقيق الأهداف الاقتصادية وسيلة لتحقيق هذه الأهداف لأنها توفر الإمكانات والموارد التي تستخدمها الدولة لتحقيق الأهداف والأغراض المذكورة وتحقيق التنمية الاقتصادية هو أهم الأهداف الاقتصادية للدولة إذ أن التنمية الاقتصادية هي عملية تهدف إلى استخدام الموارد الاقتصادية المتاحة للمجتمع في إحداث زيادات مستمرة في الدخل القومي تفوق معدلات النمو السكاني لضمان زيادة حقيقته ومستمرة  في متوسط دخل الفرد ([56]).
ولا يقتصر غرض التنمية الاقتصادية على زيادة الدخل القومي ومتوسط دخل الفرد بل هناك أهداف أخرى للتنمية الاقتصادية في الإسلام أهمها ([57]) :
1-إعداد الإنسان الصالح وبناء المجتمع السليم.
2-القيام بواجب عمارة الأرض وفق منهج الله.
3- إقامة جميع المرافق الاقتصادية التي تحتاجها الأمة على أساس من التخطيط السليم وضمن الإمكانات المتاحة.
4- العمل على توفير الحياة الكريمة لكل إنسان في المجتمع.
5- تحقيق التوازن العادل للدخول والثروات .
وعليه فالتنمية الاقتصادية تعتبر واجباً من الواجبات الملقاة على الأمة ولا بد من السعي لتحقيقها
لما تساهم به وتوفره من سلع وخدمات تعتبر بمثابة وسائل للنهوض بالمجتمع كما أن عمليه التنمية واجبة بمقتضى التكافل بين أجيال المسلمين، فالجيل الحالي في الأمة من واجبه  أن يقدم للجيل الذي يليه وضعا صالحا لإقامة حياة سليمة يستطيع أن يبنى عليها إضافات وزيادات في التنمية الاقتصادية دون عقبات ومشاكل، ولا يترك له تركة مثقلة بالأعباء والعقبات والمشاكل تعرقل مسيرة حياته ([58]).
والجميع يدرك أهمية التمويل* في عملية التنمية  فإحداث التنمية يحتاج إلى استثمار الأموال في المشاريع الإنتاجية والخدمية، ولا يمكن أن تتم هذه المشاريع إلا بوجود القدر الكافي من الأموال.
ولعل جعل نفقات التنمية الاقتصادية ضمن المجالات التي تفرض لأجلها الضرائب ويوظف على أموال الأغنياء مسألة ذات طابع يختلف عن المسائل الأخرى التي طرحت في موضوع فرض الضرائب حيث أن المجالات السابقة تجتمع في عنصر واحد وهو فرض الضرائب لأجل حاجة معينة، ولكن عملية التنمية لا تشترك مع هذه المجالات في هذه الحاجة بل هي من قبيل تحقيق أهداف النظام الاقتصادي والمالي.
وهذا يسوقنا إلى الخوض في تساؤل وهو: هل يقتصر فرض الضريبة على حالة الحاجة أم يمكن استخدامها لتحقيق هدف النظام في إحداث عملية التنمية ([59]
هناك من يعتبر أن التخلف الاقتصادي الشديد والمزمن من الحالات والأوضاع الاستثنائية التي تصنف ضمن اقتصاديات الطوارئ التي تحتاج إلى وسائل استثنائية للخلاص منها ([60]).
وبالتالي فإحداث تغييرات واسعة وجادة في التنمية الاقتصادية للخروج من التخلف الاقتصادي يعتبر من الوسائل الاستثنائية التي تحتاج تمويلها لموارد استثنائية. خاصة أن معظم مشاريع التنمية في عالمنا الإسلامي تنصب على إقامة المرافق الأساسية والضرورية للمجتمع، ولا يمكن الخروج من حالة التخلف إلا بهذه الطريقة.
ولكن لا بد للدولة في إحداث عملية التنمية من اعتماد أسلوب التناسب بين طموحاتها في إقامة مشروعات التنمية وإمكانات الدولة وايراداتها، بل أهم من ذلك دراسة نتائج هذه المشروعات على اقتصاد الدولة، فالتنمية الاقتصادية هامة، ولكن يجب ضبطها، وكذلك يجب عدم التسرع في ذلك لئلا يؤدي الفشل فيها إلى انعكاسات سلبية تؤدي إلى إعاقة الاقتصاد أكثر مما حصل من إجراء القيام بعملية التنمية غير المدروسة.
5- نفقات الطوارئ والنوازل:
يقول القرطبي "اتفق العلماء أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة يجب صرف الأموال إليها، قال مالك رحمه الله: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم وهذا إجماع أيضا ([61]).
فالإنفاق على الحوادث الطارئة مثل المجاعات والزلازل والفياضانات والأوبئة أو هجوم العدو غير معتبر بالوجود، بل هو من الأمور اللازمة، وفي حالة عدم وجود المال في بيت المال صار فرضا على المسلمين، ويجب جمعا لمال منهم في الحال دون إبطاء لأن هذه الطوارئ لا يمكن تأخيرها بل تحتاج إلى إغاثة في الحال، فإن خيف الضرر من التأخير استقرضت الدولة ما يكفي للإنفاق على ما يحدث من هذه الطوارئ ثم تسد ما اقترضته مما تجمع من الناس ([62]).
وقد أشرنا إلى أنه في الظروف غير العادية لا يقتصر الأمر على فرض  الضرائب بل لا تحترم الملكية الخاصة ويضحي بالمصالح الفردية في سبيل تحقيق المصلحة العامة ([63]).
فما زاد عن حاجة الإنسان وكفايته من المال معرض حين ضرورة المجتمع للأخذ منه، بل يتعداه إلى بقية المال بالنسبة إلى الأغنياء الذين في أموالهم فضل وسعة ([64]).
ووجه الاستدلال على ذلك قوله رسول الله e: "من كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، ومن كان له فضل ظهر فليعد به على ما لا ظهر له، إلى أن عدد من أصناف المال ما عدد حتى رأينا- والمتكلم هنا هو أبو سعيد الخدري- أنه لا حق لأحد منا في فضل" ([65]).
و حالات الطوارئ والنوازل هي من الحالات الاستثنائية التي تحتاج إلى وسائل استثنائية لعلاجها إذا لم يكن هناك متسع في الوسائل العادية، وهذه الوسائل عادة تدرس ضمن ما يسمى باقتصاديات الطوارئ أو الحرب ([66]).
التوظيف عبارة عن رفع مرتبة الإنفاق من درجة التطوع والاختيار إلى درجة الإلزام:
يولى منهج الإسلام الوازع والدافع التراثي  أهمية كبيرة باعتباره محركا قويا للسلوك الإنساني وفي مجال الإنفاق في سبيل الله يكون للدافع الذاتي أهمية كبيرة في حثه المسلم على البذل والإنفاق من ماله في سبيل الخير والصالح العام، وهذا العامل يجعل المسلم يتحرك طواعية من أجل الإنفاق في سبيل الله، فإذا أضفنا إلى ذلك أن الله تعالى قد قرر حقا في المال سوى الزكاة كما أوضحته الآية:) ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البرمن آمن بالله والملائكة والكتاب والنبيين وآتي المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة...(البقرة : آية 177.
وهذا يعني أن المسلم مكلف بالإنفاق من ماله في سبيل الله به أدائه للزكاة امتثالا للنصوص القرآنية الكثيرة التي تحث المسلم على الإنفاق من ماله مثل قوله تعالى: )وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا .... (البقرة : آية 195 ،وقوله تعالى )وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه( الحديد:آية 7.
لأن امتلاك المسلم للمال هو امتلاك استخلاف ليقوم بإنفاقه في سبيل الله الذي يعني سبيل الخير والمصالح العامة  ([67]).
فالمال هو وسيلة لبناء الأمة الصالحة، وللمال رسالة عظيمة فالمال وجد لإقامة المصانع والمشروعات المنتجة وإقامة الرفاهية العامة للأمة كلها لا لفرد معين، وليس لطبقة معينة لتحتجزه لمصالحها دون مصالح الأمة هذه ناحية.
الناحية الثانية أن منهج الإسلام يتبع أسلوب التدرج في تقرير أحكامه فهو لا يلجأ إلى الإلزام والإجبار طالما هناك إمكانية للوصول إلى الهدف والغاية بالاختيار وطواعية، وهذا المنهج ينطبق على تحصيل موارد إضافية للدولة متمثلة في فرض الضرائب فعندما لا تكفي موارد الدولة الثابتة والدائمة تتوجه الدولة إلى المواطنين ليتطوعوا ويتبرعوا لتغطية نفقات الدولة، فإذا قام الأفراد طواعية بالإنفاق فلا حاجة لأن تقوم بفرض ضرائب تلزمهم بتمويل هذه النفقات، أما إذا لم يقم الأفراد طواعية و باختيارهم بالتبرع لتمويل هذه النفقات فمن حق الدولة فرض الضرائب وإلزامهم بتمويل نفقاتها أي أن فرض الضرائب (التوظيف) في الإسلام هو بمثابة رفع لمرتبة الإنفاق في سبيل الله من مرتبة الطواعية والاختيار إلى مرتبة الإلزام ([68]).
ويؤكد هذا الفهم عدم وجود الضرائب في صدر الدولة الإسلامية على الرغم من حدوث العجز في تمويل النفقات، والسبب في ذلك واضح حيث أن الصحابة كانوا يغطون هذا العجز عن طريق الإنفاق في سبيل الله طواعية ودون حاجة لأن تلجأ الدولة إلى إلزامهم والشواهد كثيرة في هذا المجال.
تحديد وعاء الضريبة:
أما إذا أردنا أن نحدد وعاء الضريبة.
فإن آية )ليس البر أن تولوا وجوهكم.... ( وقد أوضحت أن في المال حقوق سوى الزكاة، لكنها لم تحدد الوعاء الذي تؤخذ منه هذه الحقوق فجاءت آية أخرى وحددت هذا الوعاء، يقول تعالى: )يسألونك مإذا ينفقون قل العفو( البقرة: الآية: 219.
يقول الفخر الرازي في تفسير الآية اعلم أن هذا السؤال قد تقدم ذكره فأجيب عنه بذكر المصارف([69]). وأعبد هنا، فأجيب عنه بذكر الكمية.. إذا عرفت هذا فتقول: كأن الناس لما رأوا أن الله ورسوله يحضان على الإنفاق ويدلان على عظيم ثوابه سألوا عن مقدار ما كلفوا به، هل هو كل المال أو بعضه، فأعلمهم الله أن العفو مقبول."([70]).
والعفو كما قال ابن عباس هو الفضل أي ما زاد عن حاجة الإنسان ونفقة عياله ([71]) .
فإذا كان الإنفاق الواجب المتمثل في الزكاة قد حددت معالمه وأنصبته، فإن الإنفاق المندوب لم تحدد معالمه وتركت منضوية تحت هذه الكلمة الجميلة العذبة "العفو" ليكون الإنفاق بالسماحة والطلاقة والبشاشة بعيدا عن الامتنان والحساب ([72]))ولا تمتن تستكثر(المدثر: آية 6.
ولعل جعل العفو هو دعاء الإنفاق يظهر حكمة عظيمة في التشريع الإسلامي وهي أن حاجة الإنسان مقدمة على حاجة غيره، فالإسلام لم يطالب الفرد بالإنفاق مما يحتاج إليه لتعلق قلبه به، وليس حاجته إليه، وبالتالي يكون صعبا عليه التنازل عنه  ([73]).
شروط الضريبة:
في الوقت الذي يبيح فيه الإسلام للدولة فرض الضرائب أو التوظيف على أموال الأغنياء فإنه يبيح ذلك ضمن شروط فليست المسألة أمرا مفتوحا يحق للدولة أن تقوم به في أي وقت وتحت أي ظرف
يقول القرطبي: "وضابط الأمر أنه لا يحل مال أحد إلا لضرورة تعرض فيؤخذ ذلك المال جهراً لا سراً، وينفق بالعدل لا بالاستئثار، وبرأي الجماعة لا بالاستبداد بالأمر" ([74]).
وبالتالي يمكننا استخلاص شروط فرض الضريبة بالنقاط التالية* :
1- أن تكون هناك حاجة عامة حقيقية سواء كانت هذه الحاجة اجتماعية أو عسكرية أو إنمائية أو تتعلق بأي مجال من المجالات السابق ذكرها، ويقرر هذه الحاجات أهل الاختصاص والخبرة في المجالات المالية والاقتصادية وهو المقصود من قول القرطبي "برأي الجماعة لا بالاستبداد بالرأي".
2- أن يتم فرض الضرائب على قدر الحاجة وأن يتم إلغاؤها عند انقضاء هذه الحاجة لأن السند الشرعي لفرض الضريبة أنها تفرض عند الحاجة وتقدر بقدر الحاجة ([75]).
3- أن يتم استنفاذ كافة الوسائل والطرق لتمويل النفقات عن طريق الموارد الثابتة والدائمة وبعد حث الناس على التبرع اختياراً وإمكانية تغطية النفقات عن طريق القروض، فإذا استنفذت الدولة كل هذه الوسائل والطرق ولم تكف لتغطية العجز لجأت الدولة إلى الضرائب، وهذا الشرط بالتأكيد يعني أن جميع الالتزامات المالية التي قررها الإسلام مؤداة، فلا يتصور أن نبحث في حق الدولة في فرض ضرائب بينما الزكاة مثلا غير مطبقة ([76]).
4- عدم وجود إسراف وتبذير في أي مرفق من مرافق الدولة وأجهزتها بمعنى ضرورة القيام بعملية ترشيد النفقات داخل الدولة قبل اللجوء إلى فرض الضرائب ([77]).
وهذا الشرط يعني أن العجز في تغطية النفقات قد ينتهي بترشيد النفقات والقضاء على الإسراف والتبذير وإهدار الموارد فإذا سارت الدولة على هذه الطريقة وظل وجود عجز لجأت الدولة إلى الضرائب.
5- تحقيق العدالة بين أفراد المجتمع أي توزيع أعباء الضرائب على المكلفين بالعدل وهذا ما سنوضحه من خلال النقطة التالية:
كيفية فرض الضرائب:
بعد أن بينا أن الفكر المالي في الإسلام يقر فرض الضرائب وأوضحنا المجالات والشروط اللازمة لفرض الضرائب لا بد من توضيح الكيفية التي يتم فرض الضرائب بناء عليها.
فهل نفرض الضرائب على شكل ضرائب مباشرة أم ضرائب غير مباشرة؟ وإذا كانت ضرائب مباشرة فهل تكون تصاعدية أم تنازلية أم نسبية؟
أما كونها مباشرة أم غير مباشرة فإن الإسلام يفضل الضرائب المباشرة، وأن معظم إيرادات الدولة الإسلامية تعد من الضرائب المباشرة باستثناء العشور، وتعتبر من قبيل المعاملة بالمثل، وبالتالي فإن التوظيف يكون بفرض ضرائب مباشرة على الدخل أو على الثروة هذه ناحية.
الناحية الأخرى أن الضرائب غير المباشرة عادة تصيب الفقراء ويكون وقعها أشد على ذوي الدخول المنخفضة، وهذا يتنافى مع التوظيف في نقطتين:
        2- أن التسمية الشرعية للضرائب هي التوظيف على أموال الأغنياء أي أن فرض هذه الضريبة هو على الأغنياء فقط، وقد اشترط بعض العلماء أن يكون لدي الشخص ما يفيض عن كفايته ولمن يعوله لمدة عام ([78]).
ب- أننا قررنا أن وعاء هذه الضريبة هو العفو الذي يعني الفضل والزيادة عن حاجة الفرد ومن تلزمه نفقتهم وبالتالي فرض الضرائب غير المباشرة يتنافى مع ذلك إذ أن الضرائب غير المباشرة تفرض في الغالب على السلع الأساسية التي تمثل جزءا أساسياً من دخل الفقراء ومحدودي الدخل أي أنها تصيب جوهر الدخل ولا تنصب على العفو لأن هؤلاء الأفراد ينعدم لديهم العفو، ودخلهم يتم استهلاكه على توفير الحاجات الأساسية ([79]) . يبقى أن تحدد هل التوظيف يكون بفرض ضرائب نسبية أم تصاعدية أم تنازلية.
ولعلنا ذكرنا أن من شروط التوظيف تحقيق العدالة بين أفرادالمجتمع، ومن العدالة أن يساهم كل فرد في أعباء الدولة على قدر طاقته، وهذا يقتضي اللجوء إلى الضرائب التصاعدية التي تتفق مع أهداف التشريع الإسلامي في تحقيق العدالة ([80]).







[1] عدنان خالد التركي : السياسة النقدية والمصرفية في الإسلام، مؤسسة الرسالة عمان، ص 112-113.
[2] محمد بن عبد الله الشباني : مالية الدولة (م.س) ص396.
[3] شوقي دنيا : تمويل التنمية (م.س) ص598.
[4] انظر عمر محي الدين : التخلف والتنمية مرجع سابق، ص466، غازي عناية التضخم المالي، ص100-101. مرطان : مدخل، ص254.
[5] شوقي دنيا : تمويل التنمية الاقتصادية، مرجع سابق، ص572.
[6] محمد عبد المنعم : الاقتصاد الإسلامي، ج4، ص346، ط1، دار البيان، جدة ط1، 1985م.
[7] نجاة الله صديق : المصارف المركزية في إطار العمل الإسلامي، بحث من كتاب الإدارة المالية في الإسلام، ج1، (م.س)، ص41-42.
[8] غازي عناية : التضخم المالي، ص98-99.
[9] انظر غازي عناية : أصول الميزانية، ص41، منصور التركي : الاقتصاد الإسلامي، ص268.
[10] محمد عبد المنعم عفر : الاقتصاد الإسلامي، ج4، ص334.
[11] راضي البدور : تعبئة المدخرات للتنمية (م.س)، ص1268-1269، نجاة الله صدقي، المصارف المركزية في إطار العمل الإسلامي، (م.س)، ص44.
[12] غازيي عناية :التضخم، ص170.
[13] عبد الرحمن يسري : التنمية الاقتصادية في الإسلام، ص78 (م.س)، رمزي زكي : الصراع الفكري (م.س)، ص190.
[14] عمر شبرا : النقود والمصارف في النظام الإسلامي، مجلة الاقتصاد الإسلامي، مج4، السنة الرابعة، 1985، ص4.
[15] الماوردي : الأحكام السلطانية، ص155.
[16] الشاطبي : الموافقات، ج2، ص26، النووي : المجموع، ج6، ص10.
[17] الغزالي : الأحياء، ج4، ص91-93، دار المعرفة بيروت.
[18] عبد المنعم عفر : الاقتصاد الإسلامي، ج4، ص346.
[19] محمد بن عبد الله الشيباني : مالية الدولة على ضوء الشريعة، ص408.
[20] شوقي دنيا : تمويل التنمية الاقتصادية، ص573-574، عبد المنعم عفر : الاقتصاد الإسلامي، مج4، ص348.
[21] نجاة الله صدقي : المصارف المركزية في إطار العمل الإسلامي، ص64، مرجع سابق.
[22] عبد المنعم عفر : الاقتصاد الإسلامي، ج4، ص347، الشيباني : المرجع السابق  ،ص408.
[23] شوقي دنيا : تمويل التنمية/، ص574.
[24] أحمد يوسف : أحكام الزكاة وآثرها المالي والاقتصادي، ص159-160.
[25] عبد المنعم عفر : الاقتصاد الإسلامي ،ج4 ،ص350 .
[26] الترمزي : ج3، ص48، رقم الحديث 660 ك الزكاة، باب ما جاء في أن في المال حق سوي الزكاة.
[27] الغزالي : أسرار الزكاة (م.س) ص66.
[28] رواه مسلم : ك اللفظة حديث رقم 18، ج3،، ص1354.
[29] الحافظ المنذري : الترغيب والترهيب، ج1، ص516، وقال رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
[30] ابن العربي : أحكام القرآن، ج2، ص928، وقد عرض ابن العربي آراء العلماء والتي تصل إلى ثمانية آراء حيث يرجح في النهاية الرأي الذي يرى أن المال المكتزالمكنتز هو المال الذي لم تؤد زكاته.
[31] يوسف القرضاوي : فقه الزكاة، ج2، ص991.
(1) الإمام الجويني : غياث الأمم (م.س)، ص172-173.
(2) ابن حزم : المحلى  ج3، ص560، وقد سبق الإشارة إلى هذا النص.
(3) الغزالي : المستصفى، ج1، ص303-304.
[32] الشاطبي : الاعتصام، ج2، ص104، طبعة المنار.
[33] القرطبي : الجامع لأحكام القرآن، ج2، ص246، دار الحديث القاهرة، ط   1994.
[34] ابن تيمية : السياسة الشرعية، ص63، طبعة دار الشعب.
[35] العز بن عبد السلام: قواعد الأحكام (م.س)، ج1، ص53-54.
[36] الشاطبي : الموافقات، ج2، ص16، دار الفكر، تعليق محمد الخضر حسين التونسي.
[37] د. يوسف القرضاوي : فقه الزكاة، ج2، ص1075، العبادي : الملكية في الشريعة الإسلامية، ج2، ص288.
[38] الشاطبي : الاعتصام، ج2، ص104.
[39] الغزالي : االمستصفى، ج1، ص303-304.
[40] الجويني : غعيناثت االأُمم، ص208.
[41] المرجع السابق، ص199.
[42] عبد القديم زلوم : الأموال في دولة الخلافة، ص133، سامي سليمان : مجالات فرض الضرائب، ص1032.
[43] ابن الجوزي (الحافظ جمال الدين ابوأبو الفرج عبد الرحمن بن علي) : سيرة ومناقب عمر بن الخطاب، ص101، المطبعة التجارية الكبرى، القاهرة.
[44]ابن الجوزي (الحافظ جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي) : سيرة ومناقب عمر بن الخطاب، ص101، المطبعة التجارية الكبرى، القاهرة.
[45] محمد المبارك : نظام الإسلام (م.س)، ص134.
[46] محمد عبد المنعم الجمال : موسوعة الاقتصاد الإسلامي، ص153، محمد سعيد عبد السلام : دور الفكر المالي والمحاسبي في تطبيق الزكاة، (م.س)، ص331. 
[47] قطب إبراهيم محمد : السياسة المالية لعثمان بن عفان، ص19-20، محمد رشيد رضا : عثمان بن عفان ذو النورين، ط2، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة، ص 19-20.
[48] عبد القديم زلوم : المرجع السابق، ص131.
[49] أحمد الحصري : السياسة الاقتصادية والمالية(م.س)، ص503.
[50] الماوردي : الأحكام السلطانية، ص214.
[51] الماوردي : الأحكام السلطانية، ص214.
[52] المرجع السابق، ص245.
[53] سامي رمضان سليمان : مجالات فرض الضرائب (م.س)، ص1033.
[54] عبد السلام العبادي : الملكية في الشريعة الإسلامية، ج2، ص284.
[55] عبد القديم زلوم : الأموال في دولة الخلافة، ص34-35.
[56] عبد العزيز الخياط : التنمية والرفاهة من منظور إسلامي، ط1، دار السلام للطباعة والنشر، القاهرة،  1988، خورشيد أحمد : التنمية الاقتصادية في إطار إسلامي (قراءات في الاقتصاد الإسلامي، جدة، جامعة الملك عبد العزيز، 1987، ص102.
[57] عبد السلام العبادي : مفهوم التنمية في الإسلام (أهدافها ، أطرها) ص2، بحث مقدم لندوة التنمية من منظور إسلامي، مؤسسة آل البيت، عمان فبراير 1991.
[58] يوسف إبراهيم يوسف : النفقات العامة في الإسلام، ص232.
* لا نعني أن التمويل هو العامل الأساسي في إحداث عملية التنمية فهناك العديد من العوامل اللازمة لعملية التنمية الاقتصادية، ولسنا بصدد الحديث عنها في هذه النقظةالنقطة للاستزادهللاستزادة، انظر شوقي دنيا : تمويل التنمية الاقتصادية، ص37-69.
[59] رفعت العوض : الضريبة في النظام الإسلامي، ص1094.
[60] منذر قحف : الاقتصاادالاقتصاد الإسلامي، ص207-208.
[61] القرطبي : االجامعالجامع لأحكام القرآن، ج1، ص223.
[62] عبد القديم زلوم : الأموال في دولة الخلافة، (م.س)، ص135.
[63] محمد عبد المنعم الجمال : موسوعة الاقتصاد الإسلامي، ص153.
[64] محمد المبارك : نظام الإسلام، ص134.
[65] رواه مسلم ك اللفظهاللفظه حديث رقم 18، ج3، ص1354.
[66] منذر قحف : الاقتصاد الإسلامي، ص207.
[67] محمد أبو فارس : إنفاق الزكاة في المصالح العامة، (م.س)، ص89.
[68] فوزي عطوي : الاقتصاد والمال (م.س)، ص47، محمد حمدي الجويجاني : الإصابة في الرد على د. السباعي، ص10.
[69] يقصد بذلك قوله تعالي {)يسألونك ماذا ينفقون؟ قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل} ( البقرة:215.
[70] الفخر الرازي : التفسير الكبير، مج2، ص221-222.
[71] ابن كثير : تفسير القرآن العظيم، ج1، ص256.
[72] أحمد عبد الجواد الرومي : المنهاج الاشتراكي، ص194، القرضاوي : فقه الزكاة، ج1، ص154-155.
[73] القرضاوي : فقه الزكاة، ج1، ص155.
[74] القرطبي : الجامع لأحكام القرآن الكريم، ج11، ص60.
*  يرى د. يوسف القرضاوي أن شروط الضريبة أربعة هي : 1) الحاجة الحقيقية للمال ولا أمورد آخر. 2) توزيع أعباء الضرائب بالعدل. 3) أن تنفق في مصالح الأُمة لا في المعاصي والشهوات. 4) موافقة أهل الشورى والرأي في الأُمة، القرضاوي : فقه الزكاة، ص1079 ومابعدهاوما بعدها.
[75] شوقي دنيا : تمويل التنمية في الاقتصاد الإسلامي (م.س)، ص392، أحمد الحصري : السياسة الاقتصادية والمالية، ص501.
[76] رفعت العوض : الضريبة في االنظامالنظام الإسلامي، موسوعة الإدارة المالية في الإسلام، المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية، ج3، ص1063-1064.
[77] شوقي دنيا : المرجع السابق، ص392.
[78] شوقي دنيا : المرجع السابق، ص392، القرضاوي : فقه الزكاة، ج1، ص155.
[79] يوسف إبراهيم يوسف : النفقات العامة في الإسلام، ص112.
[80] المرجع السابق، ص112، محمد عبد المنعم الجمال : موسوعة الاقتصاد الإسلامي، ص226.